كما ربياني صغيرًا
أ.رنا جابي
تعد النسور من أقوى أنواع الطيور وأكثرها أنفة وعزة وكرامة فهي لا تأكل الجيف ولا تطير مع الغربان وصغار العصافير كما تمتاز ببعد النظر وعشق القمم وكنت قد قرأت يوما عن طقوس الزواج عندها حيث تلتقط أنثى النسر غصنا فتحلق به عاليًا ويتبعها ذكور النسور بهدف الزواج فتقوم باختبار قدرتهم على الطيران والتحمّل والالتقاط فترمي الغصن من ارتفاع عالٍ لترى أيهم الأقدر على التقاف الغصن وإعادته لها عدة مرات ليفوز بالزواج منها فيثبت بهذا السلوك أنه سيكون أبًا مسؤولًا عن أولادهما وسيؤمّن لهم الحماية وسيعينها في بناء العش وإطعام الأبناء وتعليمهم الطيران حيث يقوم الأبوان بتعويدهم على الوقوف على حافة العش ثم تأتي المرحلة الأخطر فتلقي أم قشعم طفلها من حافة العش عدة مرات فيلتقطه الأب قبل أن يسقط على الأرض ثم يشجع ابنه على فرد جناحيه ويستمر التدريب حتى يتمكن الهيثم من الطيران.. فجلست متأملة بمعنى عبارة “رب الأسرة” فوجدت أن كلمة رب لغةً هي المالك والسيد والمربي وأدركت ما وراء سلوك أنثى النسر الذي قد يراه البعض غرورا ونرجسية.
وكنت قد رأيت بأم العين أن الأرانب تقوم بنزع الفرو من جسدها لإعداد بيت وثير يؤمن لصغارها الدفء والأمان حيث يبعد الأبوان بهذا السلوك جسد المولود الغض عن كل أذى.
أما عندنا نحن البشر فرعاية الطفل وتربيته تبدأ قبل ميلاده بأكثر من عشرين عامًا عندما نحسن تربية الأبوين ونعدّهما إعدادا صحيحا لتحمُّل المسؤولية وبعد أكثر من عشرين عامًا تأتي مسؤولية اختيار الشريك الصحيح وهنا جاء قوله -ص-: “من رضيتم دينه وخلقه فزوجوه” وقال أيضًا: تنكح المرأة لأربع وأوصى بالظفر بذات الدين لأن الدين أخلاق وعلم ومسؤولية تعود بالخير على تربية الأبناء.
ولأن مسؤولية التربية عظيمة جدًا وشاقة زرع الله -سبحانه- الحب المطلق في قلوب الآباء نحو أبنائهم ليستطيعوا تحمل عبء التربية وجعل من رائحة الأبناء وقربهم نبضا يمنح القلب القوة وحنانا واستعدادا لكل التضحيات حيث يبدأ الاهتمام بالطفل قبل الولادة بالعناية الجسدية والنفسية بالأم الحامل…
وبعد الولادة يصبح الأبوان أمام مهمة بناء إنسان صالح لمجتمعه فهما مسؤولان أمام الله والمجتمع عن اختيار اسم جميل له ورعايته وتنشئته على أفضل حال وقد قسم علماء التربية السنوات الأولى من عمر الطفل إلى ما يلي:7 سنوات الأولى مرحلة تدريب وتقويم للسلوك و7 الثانية تربية وهي مرحلة الثواب والعقاب و7 الثالثة هي أخطر مراحل التربية لأن الغرائز تتعارض مع ما تدرب عليه الطفل وتعترض عملية التربية لذا علينا بالتقليل من تواجدهم مع رفقاء السوء ومع أنفسهم لما تجره العزلة من عواقب وخيمة على الأسرة بأكملها وقد حث العلماء على ملء وقته بما هو مفيد دون أن يشعر فإن شعر زاد هذا الأمر في تمرده كما طالبوا بمراعاة الناحية النفسية إلى أقصى حد بسبب التغيير الهرموني الذي يطرأ على أجسادهم ومنعوا الزجر والعقوبة فإن اجتاز هذه المراحل الثلاث بسلام أصبح لأبويه خير صديق وللمجتمع أجمل رفيق…
كما يحذر المختصون من أن تقوم التربية على صناعة نسخة طبق الأصل عن الوالدين فقد نهى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الاستنساخ فقال: “لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم” صحيح أن الأبناء أكبادنا تمشي على الأرض وهم جزء ممتد منا ومتصل بنا لكنه في الوقت ذاته منفصل عنا فهم ليسوا صورة عنا ولا ملكا خاصا لنا ولا جزءا من واجهتنا الاجتماعية وحذر العلماء من تحويل عجزنا إلى أعباء يحملوها على أكتافهم ومن أن نكلفهم بتحقيق أحلامنا لنرضي نرجسيتنا ونمنعهم من الوقوع في الهفوات ونلهث وراء المثالية الكاملة التي تخلق منهم جيلا ضعيفا جبانا لديه عقدة الحساسية المفرطة للخطأ.. ومن المؤكد أن مهمتنا تنحصر فقط بإفادتهم بما تعلمناه بالنصح والقدوة بالسلوك ومن المُجدي هنا جعل الحوار فرصة للتربية وبث القيم، وعلينا بالسماح لهم بالاختيار وبخوض التجارب كما كان لنا تجاربنا المتواضعة..
والسؤال هنا؛ لم تبنّى مجتمعنا قول حافظ إبراهيم: “الأم مدرسة” و” الأم أستاذ الأساتذة الأولى” “ربوا النساء على الفضيلة” وحولها إلى شعارات وآمن كل الإيمان بضرورة تربية البنات على الفضائل ونسي قول المنفلوطي: “هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز”؟ ”
لمَ يرمي مجتمعنا عبء التربية على الأم بالرغم من أعباء الحمل والولادة والرضاعة وتبعاتها الهرمونية التي ذكرت في سورة لقمان: “حملته أمه وهنا على وهن”؟
أعلم بأن الأب يقضي معظم وقته خارج المنزل لتأمين العيش الكريم للأسرة، لكن وقت الأب لا يقاس بكم الساعات التي يقضيها في البيت بل بالفائدة والأمان والإرشاد الذي يقدمه لعائلته كما أن معظم الأمهات اليوم يعملن خارج المنزل ويقمن بمسؤوليات البيت كاملة ومما لا شك فيه أيضا أن الضغوط النفسية التي خلفتها الحروب والأزمات الاقتصادية أثرت سلبا على مهمة الوالدين غير الواعيين وأدت إلى تراجع دورهما التربوي وأقول غير الواعيين لأن رسول الله -ص- خاض الحروب وتعرض للمجاعة والغدر ونقضْ العهود وما تخلى يوما عن واجب الأبوة الذي كان يقوم به على أكمل وجه مع أولاده وأحفاده أيضا بل كان أبًا للمسلمين جميعًا…
وقد أبرز القرآن دور الأب الذي أخذ على عاتقه تربية ابنه في (الآيات17-18-19) من سورة لقمان. ووضح المصحف الشريف مكانة الأب في نفوس الأبناء وانكسارهم في غيابه فحرم تحريما قطعيًّا قهر اليتيم فقال” فأما اليتيم فلا تقهر”
وبين الشاعر محمد إقبال دور التربية في إذكاء روح العزة والكرامة عند الناشئة فقال:
وصغار الشواهين ما ذنبها ***هم علموها عناق الغبار
وجاء على لسان جان جاك روسو: “من لا يستطيع أن يقوم بواجب الأبوة لا يحق له أن يتزوج”
وتجدر الإشارة إلى أن تسليط الضوء على أهمية دور الأب لا يعني انتزاع تاج الأمومة عن رأس المرأة فالأمومة غريزة وجزء من تكوينها وتربية الأولاد أعظم مهمة أنيطت بالمرأة، لكني أنادي بالعمل المشترك بين الوالدين حتى تستقيم العملية التربوية فإن دفعا للمجتمع بأولاد أعفة صالحين كانت كل أعمالهم في صحيفة والديهما…إلا أننا بتنا نرى الأبوين منشغلين في تأمين مستلزمات الحياة التي فاقت حدود المعقول وشغلهم الشاغل لقمة العيش وميراث مادي يحمي الأولاد في المستقبل جاهلين بأن أفضل ميراث يتركه الآباء هو العلم والأخلاق وزرع المحبة بين الأبناء غير واعيين بأن انشغالهم الدائم يفرض حالة اليتم على أبنائهم كما قال أحمد شوقي:
إن اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له****أمًا تخلَتْ أو أبًا مَشْغولا
ولكن؛ هل التربية اليوم تشبه الأمس؟
بالتأكيد لا؛ إن آفة هذا الزمان هي غياب الأخلاق وتراجع الدور الرقابي للأبوين وعدم وجود القدوة في البيت والمدرسة وطغيان المادة وعولمة الهلس والتفاهة وإثارة الشهوات في كل وسائل التواصل اللااجتماعي واللاأخلاقي والمثير للجدل أن الفكرة التي كان يقنعنا الوالدان بها بكلمتين بسيطتين نحتاج اليوم لأيام لنقنع بها أبناءنا هذا إن أفلحنا وإن البيئة التي تربينا بها تشبه إلى حد كبير بيئة آبائنا بينما هناك فجوة كبيرة جدا بين بيئتنا والبيئة التي نربي بها أولادنا الآن أي أن التربية تزداد صعوبة، لذا علينا نحن كآباء أن نتوازن أولا لنستطيع تعليمهم الاعتماد على الذات وضبط النفس أثناء الغضب وتدريبهم على اختيار احتياجاتهم بتوجيه منا والسماح لهم بالخطأ كي يتعلموا من أخطائهم وعدم التعامل معهم على أنهم صغارا كي لا ينشأ لدينا جيل اتكالي وهش والابتعاد عن نعتهم بالفشل ولنطلق يدهم في التكنولوجيا التي باتت لغة العصر، ولكن تحت رقابة منا وتوعية وليكن التوازن سيد الحلول والحكمة القائلة: “شدة من غير عنف ولين من غير ضعف” تحمل قمة التوازن التربوي.
وكنت قد أجريت استبيانا عن معنى الأبوة عند أولي الألباب فمنهم من يرى الأب مظلة لأنه الحامي من كل خطر فكري ومادي واجتماعي يمكن أن يسيء لسلوك ابنه في المستقبل وهو المسؤول عن تأمين التعليم وبناء العلاقات وزرع حس المسؤولة بالإضافة للأمور البيولوجية وهو عماد البيت وهيبته تعلم الأولاد الانضباط الذي لا يمكن الحصول عليه في ظل حنان الأم ولينها ورغم ما يملكه من الحب والحنان إلا أنه يظهر الالتزام والحزم والقوة حتى يحافظ على توازن الأسرة.
وآخرون يعتقدون أن الأب هو المثل الأعلى وهو البطل الأوحد فصوت مفتاحه عندما يدخل البيت هو ضمان الأمان للأسرة وهو سند الأولاد وقوتهم.
والبعض يرى أنه الصانع الحقيقي للإنسان
ومنهم يرى في الأبوة عاطفة إنسانية ومصدرا للنصح والتوجيه والقدوة الحسنة والعدل بين الذكور والإناث ورغم اختلاف طرق التربية بين الآباء إلا أنه يقدم كل ما يملك لأبنائه بصرف النظر عن مستواه المادي أو الأكاديمي ويرى بأن التربية يجب أن تبتعد عن القسوة لأنها تعوّد الأبناء على الإهانة.
ومنهم من قال بأن الأب بطل المهمات الصعبة وهو من يقود بجهد المركب ليوصل الركاب إلى وجهتهم بسلام وهو لا يشتكي ولا يقف حتى تنتهي رحلته.
والبعض يرى أن الأبوة ثلاث أنواع: الممول مهمته الإنفاق والحارس: مهمته الإنفاق والمراقبة فيكون كالشرطي والقدوة: وهو من يتخذ من كل موقف بابا يدخل من خلاله إلى عقولهم بدروس غير مباشرة ويكون خير رسول للتعليم بالسلوك.
ومنهم من رأى أن مع تغيير الثوابت تغيرت التربية وأسسها فالأبوة القديمة أفضل واعتبر الأحاديث التي كانت تدور في السهرات عبارة عن دروس غير مباشرة لزرع الأخلاق وهي التي بنت حس الأبوة في اللاوعي عند الأجيال السابقة..
ونحن اليوم ندرك بأن التربية لم تكن يوما أمرا سهلا لأنها مسؤولية وتحدٍ كبيرٍ يتطلب الكثير من الصبر والحكمة فهي عملية صناعة إنسان سيحمل على أكتافه بناء المستقبل لذا يكون انهيار الحضارات بالعمل على هدم الإنسان بتغييب دور الأم وجعلها تخجل من عملها في تربية أبنائها وطمس دور الأب في النصح والإرشاد وإشغاله بمتطلبات الحياة التي لا تنتهي رغم إدراكه بأنه الراعي المسؤول عن الرعية..
ولكن؛ كيف يعود الأبوان إلى مهمتهما التربوية في ظل الاجتياح الإلكتروني؟ عندما كنا صغارا كان الوالدان والمدرسة مصدر التربية والمعلومات المرئية والسمعية أما الآن فنحن أمام مصادر لا عدد ولا حصر لها في الانترنت الذي بات بؤرة لآراء البلهاء والفساد وأصبحت كل المصادر في المقدمة وقبل رأي الوالدين لذا بات دور الأبوان يكاد يكون مفقودا أو قليل التأثير على عقول الناشئة.
ولم تؤثر التكنلوجيا على التواصل والتربية فقط بل بات الطفل لا يسمع ولا يرى غيرها لأنها أطلقت يده في حرية مزيفة وسحبت عنه المسؤولية فأصبح مطلق الحرية برفع الصوت وتخفيضه وسرعة الصورة وبطئها وزاد في الطنبور نغما اختراع السماعات التي أصبح بعدها الوالدان في معزل حقيقي عن الأبناء لا يعرفون ما يسمعون أو يشاهدون وقد فرضت التربية الحديثة قواعد منزلية جديدة فلا يسمح للوالدين بدخول غرف الأبناء إلا بعد طرق الباب بحجة الخصوصية المزيفة وبات صوت الفيديوهات والألعاب الصاخبة أحب إلى أفئدتهم من صوت أبويهم المليء بالأوامر والنواهي والإصرار على التفوق العلمي والقوانين والقواعد التي تقيد الناشئة أو صورتهما التي يشعر أمامها الأبناء بالأسر بينما الآلة تؤمن له الحرية المطلقة والتسلية وتخدير الدماغ بأبشع أنواع المخدرات الفكرية فمواقع التواصل الاجتماعي تبث السم في العسل وتجد مئات الملايين من الآذان الصاغية والعيون المعجبة بكل ما تقدمه من تفاهة وبله وانعدام للأخلاق..
وإني لأرى أن الحل الأجدى والأوحد أن نعود للمهمة التي خصنا الله بها وخلقنا لأجلها ولنعوّد أنفسنا من جديد على أهمية دور الوالدين التي تعجز قواميس اللغة عن وصفها ومهمتهم هذه خير عمل يقومون به وهي تكليف يتبعه تشريف من رب العالمين فقد قرن الله عبادته بالإحسان لهما فقال: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” فحرف العطف “و” هو حرف مشاركة دون تعقيب أو تراخي لعظم مهمة التربية البعيدة عن المن والأذى..
ولكن كيف يلتزم الأبوان بهذه المهمة الإلهية في ضوء كل هذه التحديات أليس الأولى أن يكون للأبوة قسم كما للطب والمحاماة والتعليم والجيش قسم؟!
فلنراقب ما ترسله لنا هواتفنا الذكية من ساعات استخدام يومية ونقارنها بالوقت الذي نقضيه مع أولادنا ولنبتعد عن شاشاتنا التي حرمتنا من المتعة بهم ومن دورنا كآباء ومن ثواب التربية في الدنيا والآخرة وحرمتهم من طفولتهم ولنبعدهم عنها قدر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ولنحترم حضورهم البهي ولتملك مفرداتنا كمًّا من اللين والحب ما يجعلها سحرا يطرب آذانهم ولتقترن كلماتنا بالفعل فالكلمة إن انفصلت عن الفعل أصبحت ثرثرة وعبثا وإن تناقضت معه أصبحت نفاقا ولنؤمن بأن ألف التثنية في “كما ربياني صغيرا” تعني اتحاد ساعدي الأب وحكمته وحزمه مع قلب الأم وحنانها وعطفها و لندرك بأن أبناءنا رياحين لنا وأن خير الكسب هم خير الكسب هم.
بوركت يمناك عزيزتي . مقال اكثر من رائع وشمل كل ما يجول بالخاطر ويحدث على أرض الواقع بل عزفت على اكثر الاوتار حساسية .
ما شاء الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لقد قرات المقالة في المجلة وسررت كثيرا لهذا الكلام الجميل واعجبني المعنى وكل ماذكرتي في المقالة وخاصة الشواهد بحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ان مهمة تربية الاولاد هي اهم مهمة في حياة الام والاب الاسرة اذا صلحت صلح المجتمع كله اطفال اليوم اجيال المستقبل وبناة المجتمع الله يجزيك الخير ويعطيك الصحه دوما لكي تستمري في نشرك للعلم والوعي