عندما كنا صغارًا كان العيد يحمل لنا كل فرح وجمال وحب ورغم أني أمقت الانتظار إلا أن انتظار العيد كان جزءًا من بهائه..
كان العيد يبدأ قبل أيام من وصوله إلينا فعلى جدران البيت وممراته ومفروشاته الاحتفاء بالضيف الكريم بالنظافة والرائحة العطرة وكانت المطابخ تعج برائحة الحلويات والكل مشغول بالتجهيزات نحن والأهل والجيران …وكانت الأسواق تكتظ بالناس فالكل منهمك في الاستعداد لاستقبال الفرح. وكان يمنع منعًا قاطعًا ارتداء ملابس العيد قبل اليوم الأول من أيامه.
وكانت أمي قد علمتنا ونحن صغارًا أن نضع ملابس كل منا كاملة على كرسي وتحتها الحذاء استعدادًا لارتدائها في اليوم التالي وكانت الفرحة تملأ الأفئدة وتشع في العيون…
وفي اليوم الأول كانت تكبيرات العيد القادمة من المساجد القريبة تعطر الفجر بشذىً لا مثيل له وكان منظر الرجال بجلابياتهم البيضاء يكمل نشوة الفرح كانوا يشبهون الملائكة المنتشرة في شوارع المدينة…وكان العيد مناسبة لتتصافح القلوب وينتشر الغفران والتسامح…وكانت بعض المناسبات تحدد تواريخها حسب عدد أيام العيد وليس حسب أسماء الأيام أو تواريخها كأن يقال على سبيل المثال: “الخطبة أو عقد القران أو العرس في ثاني أيام العيد أو بعد العيد بـعشرة أيام وهكذا…”
إلا أني نشأت في منطقة حديثة تغيب عنها طقوس العيد لذا كنت أنتظر وأخوتي بدء الزيارات لبيوت الأقارب في المناطق التراثية الغارقة برائحة الغار لنمارس فرح الطفولة على أكمل وجه فلا حواجز ولا قواعد ولا قوانين.. نأخذ النقود (العيديات) وننطلق إلى ساحات العيد ولا نعود إلا بعد إنفاقها كاملة على المراجيح والألعاب والحلوى…وكانت زيارة الأقارب تحمل لنا الكثير من الغبطة والبهجة أما زيارتهم لنا فكانت تشكل لنا عيدًا آخر وكانت مهرجانًا حقيقيًا حيث تفتح غرف المنزل على اتساعها وتنضم حديقة البيت لصالة الاستقبال لتكفي عدد الضيوف القادمين لمعايدتنا.. وكنا فعلًا نملأ ملاعب الطفولة فرحا أم أن الفرح كان يملؤنا لا أدري… كل ما كنت أشعر به بأننا نعيش العيد بمعناه الحقيقي..
وبعد أن كبرت قليلًا توفي والدي -رحمه الله- قبل العيد بأيام قليلة فتغير كل شيء..
بقيت استعدادات العيد ورحلت الفرحة الكاملة به حيث انتقلت ليلة العيد وصباحه من فرحة عارمة إلى بكاء على فراقه واستعدادًا لزيارته بعد صلاة العيد كنا نقف مع أمي التي عكفت على تربيتنا أمام مرقده والدموع تملا المآقي وشهقة البكاء تحرق المكان وتبتل صفحات المصاحف وتغيب حروف الآيات التي كنا نقرأها على روحه الخالدة التي غادرتنا مبكرًا..
كل هذا قبل أن نعرف أن هناك مناطق في العالم لا تعرف للعيد سبيلا بسبب الفقر ولم نكن نعرف أن هناك آلام كبيرة بعيدًا عن ألم أسرتنا بفقدان والدي ذلك الألم الوحيد في الدنيا بالنسبة لأم وأولادها الصغار.. وكنا نظن أن وجعنا هو الأوحد والأكبر في العالم ربما بسبب عدم اكتمال النضج حينها او انغلاق سوريا على الأخبار المحلية فقط.
وتوالت السنون وكبرنا عمرًا وعقلًا وإدراكًا واتسعت دائرة المعرفة في العالم من حولنا ووجدنا أن العيد قد يحمل للبعض الشعور بالحرمان والفقد والبؤس والحزن بسبب الحروب وجبروت الحكام وظلمهم.. واستمر المرار في أول أيام العيد إلى أن انتقلتُ إلى بلاد المهجر وودعت أهلي وبلادي من نافذة الطائرة الصغيرة جدًا كنت أرى وجوههم وشوارع المدينة كلها داخل نافذة صغيرة إلى أن غابت وغاب كل شيء لأبدأ حياتي هنا من جديد في بلاد لا صديق فيها، ولا أهل، ولا عيد..
وهنا في بلاد الاغتراب عرفت أن العيد هو سماع أصوات من نحب في سماعة الهاتف التي كانت حينها وسيلة التواصل الوحيدة أو وصول رسالة خطية قد تحترق أوراقها أثناء قراءتها بدموع الشوق وتوالت السنون والعيد أصبح كأي يوم آخر في السنة يذهب فيه أهل المدينة للعمل أو المدارس وقد نزور بعض الأصدقاء، ولكن حسب عطلة الأسبوع القريبة من أيام العيد ورغم أني ما زلت أقوم بصنع حلوى العيد وأشتري لأولادي الملابس الجديدة، ولكن…. أين سنذهب؟ ومن سنزور؟ ومن سيزورنا؟ كل هذه الأسئلة لا إجابة لها في بلاد الاغتراب.. ومع الوقت نسيت حتى الأسئلة..
وبعد اندلاع الحروب وامتداد يد الموت القاهرة التي لا تفرق بين الكبير والصغير هل مازال للعيد معنىً أم زالت كل معاني الفرح وهل أصبحت الأعياد مصدرًا للحزن والدموع بعد سيادة براميل الموت وقذائف الحزن ورصاص الغدر؟ فالناظر إلى بلادنا التي طحنتها الحروب وقهرها الفقر بعد الانهيار الاقتصادي التي تشتكي منه دول العالم مجتمعة وخاصة بلادنا المقهورة اقتصاديًا وإنسانيًّا والمظلومة سياسيا.. لا يرى مظهرًا للعيد ولا معنى يشبه ما تربينا عليه..
ومع كل هذا القهر الذي يسود العالم انتشرت المعايدات الإلكترونية وهي عبارة عن رسالة تتضمن فيديو أو صورة ممجوجة قد تأتيك هي ذاتها من عشرات المرسلين ثم “ستكر” صغير جدًا تحتاج لنظارة بصرية لتراه جيدًا والغريب أن هذه الرسائل على برودتها باتت تفرحنا في ظل التراجع العاطفي والاجتماعي وكأن لسان حالنا يقول: هنيئًا لي أنهم تذكروني وما زلنا نكتفي بالقليل إلى أن ينتهي ويضمر خاصة عندنا نحن أصدقاء الغربة، نحن الذين أدمنا البرود وبات يفرحنا كل تواصل على شحه وقلته..
والسؤال هنا: أين العيد من الشعوب العربية التي رحل ثلثها للقاء ربه وهاجر ثلثها الآخر إلى بلاد لا تعرف للعيد سبيلا والثلث المتبقي يعاني من الفقر والبؤس وسوء الوضع الاقتصادي وتركوا العيد يتيما لا احتفاء به ولا فرح إلا أن مما لا شك فيه أن وفير الحظ منا هو من قضى العيد في بلاد آمنة والأوفر حظًا من قضاه في بلاد مسلمة آمنة ليعيش وأولاده فرحة العيد ويرى مدخلًا يبدأ به الحديث معهم عن ذكرياته في أيام العيد…
ولكن كل هذا لا يعني أن نجلس على الأطلال وننشد “بأي حال عدت يا عيد؟” بل دعونا نتبادل “كأنك العيد والباقون أيام” دعونا نفرح بقول الشاعر:
تشدو مع العيد آمال مغردة والكون يزهو ويعلو فيه تغريد ولن نردد بعد اليوم ما قالوا عيد بأية حال عدت يا عيد
دعونا نأتي بكل جميل ونعيش العيد قدر ما استطعنا إليه سبيلا دعونا نخترع لأفراحنا أعيادًا فما زال للفرح بقية…
وكل عام وأنتم فرحة العيد وبهاؤه وهنيئًا لكم العيد الذي أنتم عيده.