أ.رنا جابي
من المعروف أن المناهج التعليمية تخضع لرقابة مشددة تناسب المجتمعات وأن لكل لغة مهارات وأن للتواصل اللغوي قواعد وآداب..
فمن آداب مهارة الاستماع؛ الانتباه والتركيز والإنصات وعدم مقاطعة المتحدث والاستئذان قبل التحدث…
ومن آداب التحدث؛ التحية والاستئذان واستخدام الكلمات السحرية (شكرًا، عفوًا، لو سمحت، آسف)
أما آداب مهارة القراءة فهي الصوت الجهوري الواضح ومراعاة الوقف والطلاقة والشعور والأساليب اللغوية من تعجب واستفهام…
ومن آداب الكتابة؛ مراعاة الهوامش ورسم الحروف بخط سليم وواضح ومراعاة المسافات واستخدام علامات الترقيم
كل ما سبق مهارات لغوية نكتسبها من بيئتنا وثقافتنا ومعلمينا..
ولكن هل هذا ينطبق على الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي بعد أن باتت عصب الحياة وطريقة أولى للتواصل اللغوي؟
لقد أثبتت الشبكة العنكبوتية نجاحها وتميزها في كثير من المجالات فقد أقيمت جامعات ومدارس إلكترونية تعين الطالب على التحصيل العلمي والحصول على الشهادات مهما كانت الظروف المحيطة به وأُنشأت مكتبات إلكترونية تساعد طلاب العلم وعشاق القراءة على التغذية الفكرية وانتشرت ورش العمل الإلكترونية التي تحمل أعلى الخبرات العلمية والعملية وأُقيمت شركات إفتراضية يعمل فيها ملايين الموظفين حول العالم غير الصحف والمجلات وآلاف مؤلفة من الكتب المدرسية والعلمية والأدبية وحل البريد الإلكتروني محل البريد الورقي لتحري السرعة واختصار الوقت فأصبح العمل أسرع والتواصل أسهل ولم تعد الكوارث الطبيعية والبيئية وسوء الأحوال الجوية وانتشار الأوبئة عوائق تمنع تلقي العلم أو استمرار العمل…
وبعد اختراع وسائل التواصل الاجتماعي التي وصلت مشارق الأرض بمغاربها وبات العالم قرية صغيرة أصبح التواصل مع أصدقائنا ومعلمينا وأهلنا سهلًا بعد أن تشتتنا في بقاع الأرض ولم يعد هناك حدود تمنع العالم معرفة أخبار من نحب والتواصل معهم فحطمت بذلك مفهموم الخرائط والحدود وفرق التوقيت وتغلبت على تكاليف السفر فبتنا نعيش يومياتنا معًا عبر الكاميرا ولم يعد للغياب مبررًا ولا للإهمال فتوى ولم نعد ننتظر صوت الهواتف الأرضية وبات كل شيء متاح فلا حدود للزمن ولا قيمة للمسافات ولا حواجز تكبل العلاقات وقد أنتجت وسائل التواصل الاجتماعي نتاجات فكرية وأدبية وعلمية يقف لها أولو الألباب احتراما فكانت الصحف والمجلات وإعداد الكتب المدرسية واللقاءات بالمنظمات الإنسانية والدولية وتقديم المساعدات المالية لمنكوبي الحرب كما طالت الشقق الفندقية وسوق المال والأعمال ومعاملات البيع والشراء وإبرام العقود والصفقات ودخل الإعلام والإعلان وسائل التواصل فباتت بعض الصفحات مصدرًا مهمًّا للأخبار المحلية والعالمية كما أعانت وسائل التواصل العائلات الجديدة على تلقي النصائح الأسرية من المختصين وتعلّم الطبخ وإدارة البيت والنصائح النفسية ورفعت من مستوى الذوق العام في اختيار المفروشات وألوان الملابس وتعلم قواعد الإتكيت وألغت حاجز الخوف من الكاميرا وأطلقت الألسنة في البث الحي والمباشر كما غزت الفضاء الأزرق قصص حب صادقة انتهت بالزواج وتكوين أسر سعيدة شهدنا خلالها فرحة اللقاء في مطارات العالم قصص حب أدت إلى تغيير ديموغرافيًا واضحٍ بعد أن باتت فرص الزواج أوسع والانتقال من بقعة جغرافية إلى أخرى أسرع…


فكم حبيب تناول الغداء أو سمع أغنية أو شاهد فيلما أو حفلة موسيقية مع حبيبته عبر الكاميرا محطمًا بذلك وحش الانتظار والمسافات وكم أب مقيم في دولة بعيدة التقى بأولاده عبر وسائل التواصل المرئية متغلبًا بذلك على شبح الشوق واللوعة وكم عدنا مريضًا وكم قمنا بواجب عزاء أو تنهنئة أو شكر عبر وسائل التواصل التي باتت ملك يمين…
ولكن هل لغة وسائل التواصل تليق بنا وهل نلتزم مهارات اللغة التي ذكرت سابقا؟
مما لاشك فيه أن هناك من يسيء استخدامها أيما إساءة؛ فبعض الصبية العابثين يعتبر الموافقة على طلب الصداقة جواز عبور يدخل فيه حياتك دون استئذان فما أن تقبل الصداقة تبدأ الأسئلة عن الوضع العائلي والعمر… غير آبه بمحتوى الصفحة وما تنشره من فوائد بل البعض يتجاوز حدود اللياقة والكياسة ويرسل ما يخدش الحياء والأدب بعد صداقة عمرها دقائق فقط بالإضافة إلى لغة ليست على القدر المطلوب من الرقي في الرسائل أو التعليقات ضف إلى ما سبق ما يُنشر من تفاهات وحمق وسفه وبرامج تهدف إلى هدم القيم الأخلاقية وتتنمر على حملة الشهادات الجامعية لتقنع الأجيال الجديدة بعدم جدوى العلم ونيل الشهادة بالإضافة إلى الخلافات التي تنشأ عن سوء فهم الرسالة في غياب علامات الترقيم واللغة الفصحية وعدم الرد المباشر على بعض الرسائل أو إهمالها وما يتبع ذلك من عدم تقدير لوقت المرسل إليه أوفارق التوقيت…
لذا لابد من خضوع من تجاوز سن التعليم إلى دورات وورش عمل تهتم بآداب التعامل مع وسائل التواصل واعتماد تخصصات جامعية جديدة كصناعة المحتوى الهادف وإضافة مادة دراسية تُفرض في المدارس تعنى بآداب التعامل اللغوية والأخلاقية تُشرح للجيل الجديد كما تُشرح مهارات اللغة وتنال حظها من الاهتمام في دور التربية والمعارف.. ففي مجتماعتنا نعلّم الناشئة الآداب معتمدين على ما جاء في الكتب السماوية والأحاديث النبوية ولا نعلمهم آداب التواصل عبر الشبكة العنكبوتية المليئة بالسفه والحمق واستباحة كل الموروث الثقافي العربي لذا لابد من سن قوانين صارمة وعقوبات قانونية للحد من النصب العاطفي والمادي والحمق اللغوي ومراقبة الابتذال والرخص المنتشر ولابد من انتهاج مفردات وآداب تهذب الجموح وتعيد الفرات إلى عذوبته ولتكن هذه الوسائل سوقًا ثقافية كـ»عكاظ» تثبت ذكاء الإنسان وقدرته الخلاقة وقوة الكلمة وشجاعتها من خلال ما نتبناه من أفكار ومعلومات ليتم بعد ذلك اختيار المادة التي تليق بالنشر كالمعلقات قديما فما كان كل نتاج أدبي صالحًا للنشر منذ الأزل وما كان للصعاليك صوت يسمع هناك.. وليكن ديدننا الرقي ورفعة المستوى اللغوي ورقة الأسلوب والصدق والصداقة الحقيقية والحب تحت ضوابط أدبية محترمة.
وأخيرًا؛ أنا لا ألوم المجتمعات العربية التي استشرى فيها الأمر، فالتعامل مع كل جديد يخلق حالة من الفوضى إلى أن تسن المجتمعات قوانينها ولا أحلم بـ»يوتوبيا» -المدينة الفاضلة- لكني أدعو لعودة الإنسانية إلى ما فطرنا الله عليه، ولتكن أجهزتنا الإلكترونية وسائل تساعد في تنمية الثقافة الاجتماعية وزيادة المعارف والخبرات ورفع مستوى التذوق والرقي الاجتماعي شرط أن لا نصبح سجناء أنفسنا وأجهزتنا.

من rana

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *