الكاتبة/ ملك توما
يحتفل العالم في اليوم العالمي للديمقراطية في 15 من أيلول، حيث تعد الديمقراطية هي الشكل السائد لحكومات العالم، وخلاصة ما وصلت له البشرية والتزمته في إدارة شؤونها بالمشاركة السياسية للمجتمع وفي الموجات المتعاقبة للديمقراطية حيث أخذت تزحف على مختلف العالم في بداية القرن العشرين لتشهد زيادة كبيرة في عدد الدول التي تحكمها أنظمة ديمقراطية، أو أعلنت عن نفسها ديمقراطية كعنوان وكانت غير ذلك، حيث توجد اليوم قائمة ب100 دولة على الأقل على قائمة المجتمعات الديمقراطية.
التفسيرات التي تنطلق منها الحاجة إلى الديمقراطية حيث تنطوي تحت عوامل داخلية مثل الثورات والتحالفات النخبوية الواعية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تخلق مزاج مختلف ودورها في مرحلة لا يمكن تجاوز إرهاصاتها كما حصل في ثورات الربيع العربي الممتدة منذ عام 2011 الربيع العربي بأصوات الثائرين والثائرات على خط النضال من أجل الديمقراطية رغم التعثر الكبير لكن لاتزال الديمقراطية هدف، وما تلاها من حركات في الأوطان والمنافي في البحث عن معاني الديمقراطية نظرياً وتطبيقياً.
فأبرز قيم الديمقراطية هي سيادة القانون، فصل السلطات، الديمقراطية التشاركية، تداول السلطة السلمي، منظومة التمثيل والانتخابات هذه قيم الديمقراطية التي لها مسار نخبوي يعبّر عنها بسلوك السياسيين والمنظرين، ولها مسار آخر وهو تقني يعبر عن التكنوقراط الذي يحدد إطارها واستراتيجياتها وخطط التطبيق الشكلي والضمني.
هنا تأتي (الرواية السياسية) التي تقول بأن قيم الديمقراطية لا يمكن تطبيقها في دول مازالت تعاني من آثار الاستعمار ولديها مشاكل كبيرة على مستوى الاقتصاد والمؤسسات والوعي الجمعي، وتدّعي بأن المؤامرات التي تحاك ضد بلادهم هي التي تحول بينها وبين الديمقراطية والفكر المستنير.
ليأتي بعدها جيل الربيع العربي يؤسس (لرواية الفعل المدني) حيث يعمل باستراتيجية نشر مبادئ يمكن أن تجعل من سلوك الناس في المجتمعات المحلية ديمقراطياً عبر نقاشاتهم التي تبني أعراف احترام الحوارات والآراء المطروحة فيها، ومن خلال الممارسة للعمل الجماعي والإشراك المجتمعي، هنا في التفاصيل التقنية التي تبني قواعد التشاركية وتوزيع الفرص والموارد، تطور الخبرات وتتعزز ثقافة الديمقراطية.
نعم يحدث ذلك تدريجياً ويأخذ محاولات لسنوات عديدة تختبر فيه الجماعات المشاركة التي تؤمن بالعمل المدني التي تنتقل من تجارب الفرق التطوعية إلى المؤسسات والهيئات والنقابات تمهيداً للحركات والأحزاب حيث تراكم الأخطاء والتحديات والدروس المستفادة في كل مرة، هنا كل شيء تفاعلي ويحدث في آن معاً في الفضاء ويدخل الإعلام المحلي ليطورأدواته للمواكبة وينقل صورالواقع، حيث لا يمكن أن تأتي الديمقراطية إلا من داخل المجتمع ومن إعادة صياغاته الذهنية حول الشأن العام.
وهذا يدخل بالأنثروبولوجيا – علم الإنسان السياسي- ثقافته وسلوكه الاجتماعي.
فهل تعنى الأنثروبولوجيا بالديمقراطية؟
الانثربولوجيا السياسية التي هي فرع من فروع علم الإنسان الذي يهتم بدراسة البنية السياسية للمجتمعات البشرية، وكيف تتشكل هذه البنية وتتطور، وكيف تتفاعل مع الجوانب الثقافية والاجتماعية الأخرى للحياة. بعبارة أخرى، فإن الأنثروبولوجيا السياسية تسعى لفهم كيف يتم تنظيم السلطة وتوزيعها في المجتمعات المختلفة، ومن هنا تأتي الأحقية الانثربولوجية في تحليل الديمقراطية.
حين تدرس الانثربولوجيا في الأبحاث الميدانية التي يشارك فيها المجتمع المحلي بلغته البسيطة لكل ما يعانيه من انتهاكات وصعوبات واحتكاكها مع الفواعل المحلية والسياسية، وما يترتب بعدها من قياس للغة الخطاب الدارجة واحتواء الآخر باختلاف الثقافات الإثنية والدينية والمجتمعية التي تعيش في نسيج المجتمع المحلي، وعندما تحدد الانثربولوجيا تمظهر المجتمعات في فهم قيم الحرية والانفتاح على النقد والشجاعة في التخلي عن الأساليب الماضية في التعاطي وتشميل الأصوات الغائبة والمحرومة التي تعيش في ظلال المدينة.
إضافة إلى دراسة التحولات الثقافية على المدى الطويل ابتداء من المنظومة التي بناها الحكم الاستبدادي إلى دورة حياة الشعوب وانخراطها في الثورات، وعليه يتحتم تحليل الخطاب المتبادل بين ماهو مدني وما هو سياسي وأين هي قوة الفواعل على الأرض ،وصولاً إلى معرفة العقلية المثقفة والعقلية التي تؤمن بالسلاح و تداعيات تلك العقليات وما يرافقها من حوامل مجتمعية وسلوكيات ناتجة عن الأحداث التي تتعرض لها البيئة التي تتفاعل مع موجات الربيع العربي ( حينها يمكننا القول فعلاً بأن الانثربولوجيا تعنى بالديمقراطية في السياق العريض) .
هناك دورة حياة للانتقال الديمقراطي يبدأ من الصياغات العملية والنظرية ضمن ما تم الإشارة له في الرواية المدنية وعدسة الأنثروبولوجيا التي تعنى بنضج السلوك الديمقراطي في الأطرالمجتمعية المحلية، حينها يمكن فقط التفكير بجدية في قياس السلوك السياسي في المؤسسات الحزبية والبرلمانية والدستورية والعسكرية.
يعرف الانتقال الديمقراطي بأنه: عملية تحول تدريجي أو انتقال قسري لنظام سياسي حاكم، يحكم فيه فرد أو جماعة أو حزب، بشكل مطلق إلى نظام سياسي آخر يسمح للمواطنين والمواطنات بالمشاركة والتعددية السياسية واختيار حكامهم وممثليهم بحرية ونزاهة وفق برامجهم السياسية.
فعادة ما تمر عملية الانتقال الديمقراطي بمراحل متعددة، منها:
مرحلة الانهيار: تشهد هذه المرحلة انهيار النظام القديم وفقدانه الشرعية.
مرحلة الفراغ: تتسم هذه المرحلة بالفوضى وعدم الاستقرار، حيث لا يوجد نظام سياسي واضح المعالم.
مرحلة البناء: تبدأ في هذه المرحلة عملية بناء النظام السياسي الجديد، وتشمل صياغة الدستور وإجراء الانتخابات وتأسيس المؤسسات الديمقراطية، وتنشط الأحزاب التي تتشكل مع ذهاب النظام القديم.
مرحلة التوطيد: تهدف هذه المرحلة إلى ترسيخ النظام السياسي الجديد وتحصينه ضد الانقلابات والعودة إلى النظام القديم.
تأخذ هذه المراحل سنوات من الجهود والعمل في بناء التحالفات والمفاوضات الجادة من أجل إعادة تشكيل الصورة الذهنية للمصالح وميزان القوى في الربح والخسارة من النموذج القادم حيث يتم التوعية والإشعار بالاستحقاق لكل الفئات الرسمية وغيرالرسمية المنخرطة في هذا المسار، يؤدي في نهاية المطاف إلى تنمية مستدامة وحقوق إنسان وحقوق وحريات، تصفير المشاكل الإقليمية العالقة ليمتد إلى علاقات دولية أكثر احتراماً وثقة داخل الأروقة الدولية، التي تؤدي بدورها الانفراجات على مستوى السياقات الاستثمارية والاقتصادية والتنمية الشاملة التي تبني النموذج الذي يحقق الرضا الشعبي والمواطنة الفاعلة .
يواجه الانتقال الديمقراطي العديد من التحديات ولكل انتقال سياقه الذي يجعل من العوامل متشعبة بشكل مختلف نذكر، منها :
العنف: قد يشهد الانتقال الديمقراطي موجات من العنف بشكل عكسي وتبعات من الصراعات المسلحة. نتيجة تضارب مصالح القوى الديكتاتورية .
الانقسامات الاجتماعية: قد يؤدي الانتقال الديمقراطي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والطائفية، وهذا يحدث عندما تكون المجتمعات المحلية مازالت تؤمن بالنموذج السياسي القديم وترى النموذج المستحدث هو غيرضامن لاحتياجاتها المادية والمعنوية حيث يصيح التشكيك في الشخصيات والمبادرات والإسهامات الفكرية والثقافية،هوالفعل المجتمعي الأبرز .
التدخل الخارجي: قد تتدخل قوى خارجية في عملية الانتقال السياسي، مما يعقد الأمور ويؤخر تحقيق الاستقرار.
هل نكتفي اليوم فقط بالتنظير للديمقراطية في الواقع السوري؟
لا شك بأن الإحاطة الكاملة ومحاولات معرفة الجوانب العملية والنظرية لقيم الديمقراطية هو غاية في الأهمية بشكله النظري، لا سيما ما يشغلنا في السياسة و البحث والتفكير في استعصاء الملف السوري في الحل السياسي في كل جوانبه، لكننا نحتاج خطى عملية في طريق الديمقراطية، حيث الواقع مليء بضحايا الاستبداد و الظلم غير المحدود، والانقسامات المجتمعية، والتدخل الخارجي، فكل التحديات أمام الانتقال الديمقراطي موجودة بسورية، لكن الإصرار الكبير وتوالد نقابات وأحزاب وفرق تطوعية، تمارس السياسية والشأن العام رغم كل هذه الظروف والتحديات تشي بصورة مهمة تعطي أمل ونحتاج تعزيز لهذه القوى السياسية والمجتمعية الناشئة التي تعزز الأدوات الديمقراطية، وتمتلك مهارات وصقل قدرات للطاقات الشبابية بهذا الواقع، وهو يناضل للخلاص من هذه الحقبة إلى حقبة جديدة تسود فيها الديمقراطية والعدالة والدستور.
ملك توما