مصطفى عبد الوهاب العيسى
لا أزال متمسكاً بالرأي الداعي إلى التريث والصبر قليلاً على السلطة الانتقالية في دمشق، لكن لا بدَّ من مراقبة التغيرات الميدانية السريعة على كافة الأصعدة، والتي تخللتها – على الرغم من قلتها نسبياً وفق التوقعات – تجاوزات وتصرفات سلبية تتنافى مع الرسائل الإيجابية والوعود الرسمية التي أخذناها على محمل الجد.
كان هروب بشار الأسد حدثاً كبيراً، ومفصلاً هاماً في رحلة ثورتنا التي نادت بالحرية وإسقاط النظام، إلا أن هذا الحدث الكبير وإن دلَّ على نصر ثورتنا فإنه ليس بالضرورة أن يدل على سقوط النظام الذي تسعى بعض رموز فساده وقيادات الصف الأول فيه لعقود إلى إعادة تدوير نفسها في النظام القادم مدعومة بتسويق إعلامي منظم ومدروس، وكم هو معيب أن نقبل إعادة تدويرهم مستقبلاً بحجج الكفاءة والخبرة، وكأن أرحام السوريَّات العظيمات عجزت عن إنجاب الشخصيات القادرة على بناء دولة حديثة ومتقدمة.
قد نتفق أو لا نتفق مع الإدارة الجديدة بطرحها المنطقي نوعاً ما في مسألة المحاسبة والتسويات الجارية مع أفراد وميلشيات النظام السابق، وشخصياً أعتقد أنه لا بد من أن يأخذ القضاء مجراه مع جميع من تلطخت أياديهم بدماء السوريين، ولكن الأهم برأيي إن تجاوزنا الخلاف بمسألة المحاسبة وعن طريق المحاكم المختصة حصراً ألا نغفل عن تحقيق العدالة الانتقالية لجميع أفراد الشعب السوري برفض إعادة تدوير بعض الأشخاص والقوى رفضاً قاطعاً.
بعد هروب الأسد، شعر السوريون بفرحة كبيرة، ووجدوا فسحة من الحرية للتعبير عن آرائهم السياسية، وكانت هذه الحرية خطوة إيجابية في مسيرتنا المستمرة لإسقاط النظام السابق بكامل أركانه، وحان الوقت للمضي قدماً في هذه المسيرة.
لا بد اليوم أن يتم تعزيز حرية الصحافة، وأن تتقبل السلطات الانتقالية دور الناقد والناصح لها من المعارضة الوطنية، وبعد تحقيق الاستقرار الأمني يجب تحقيق المصالحة الوطنية المبنية على الثقة المتبادلة بين الشعب والسلطة الحاكمة، والتي لن تتحقق إلا بالمشاركة الفعالة لجميع القوى الوطنية من كافة المكونات.
بدأت عملية إسقاط النظام بشكل فعلي عن طريق المبادرات الفردية الهادفة للتغيير الحقيقي والجذري في جميع جوانب الحياة، وتبلورت هذه العملية بشكل ملحوظ من خلال حملات ترميم لما خلفته الحرب، وحملات تنظيف المدن وإنارة الشوارع، وغيرها من الخدمات التي قدمتها بعض القوى الوطنية بإمكانياتها الذاتية المتواضعة ، وهذا فضلاً عن الندوات والحوارات التي قامت بها هذه القوى مستهدفة العديد من الجوانب الاجتماعية، إلا أن مهمة بناء الدولة الحديثة من الناحية السياسية، وإصلاح النظام الاقتصادي فهي تقع على عاتق الحكومة بالدرجة الأولى، وتحتاج لتضافر الجهود من الجميع محلياً في كل المجالات، وإقليمياً ودولياً من أجل الإعمار و إعادة البناء .
من المبكر اليوم أن نتحدث عن سقوط النظام في سوريا، ونحن نشهد تهديدات حقيقية للسلم الأهلي والنسيج المجتمعي المميز عن طريق جهات خارجية ساعية لضرب نصر الثورة والوحدة الوطنية، ولا تزال أمامنا تحديات كبيرة في إعادة تأهيل وتفعيل دور المؤسسات الحكومية، وإعداد الدستور، وإجراء الانتخابات النزيهة التي تُعلن عملياً عن سقوط النظام السابق، وبدء العهد الجديد لسوريا الحرة.
في المرحلة القادمة، وحتى نضمن أننا نسير في الطريق الصحيح لبناء دولة حديثة مستقلة يجب تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة طبعاً، وبشكل خاص تنمية الممارسة السياسية، ويجب التركيز على الموروث الثقافي الغني لسوريا بشكل يمكننا من تحقيق أقصى استفادة ممكنة من مزايا التنوع العرقي والطائفي.
سيتحقق سقوط النظام السابق بشكل كامل عندما نرى التشاركية بشكل حقيقي وملموس، وعندما تأخذ دورها في الإدارة الشخصيات والأحزاب السياسية ذات المرجعية الفكرية الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *