الاستنساخ الفكري
الاستنساخ الفكري هو مصطلحٌ جديد و ليس مألوفاً للسمع لكنه التفسير الوحيد لغياب بصمة الروح، تلك
التي كانت تميز كل إنسان عن غيره، اليوم أصبح كل إنسان ينتمي إلى بضع مجموعات وربما مع
الوقت سوف تتلاشى تلك المجموعات أيضاً وربما يأتي يوم لتصبح مجموعة واحدة فقط.
أصبح على الأنسان أن يعرف شيئاً ليعرف كل شيء، ففي الأدب أنت مضطر لأن تقرأ كما يقرأ
الآخرون، وأن تستوحي منهم الرضى والسخط أيضاً على المؤلفات الأدبية، وأن تعجب بالأفكار ذاتها
وتعطي الآراء ذاتها، وتتبنى المقتطفات التي أعجبتهم وإلا فأنت غير مثقف، ماذا لو أنك أبديت رأياً
مغايراً لآرائهم!؟
سوف يصفك البعض بالهامشية والسطحية وأنك لم تقرأ المعاني العميقة والأهداف السامية الغير
موجودة أساساً لكنها وفقاً لتصوراتهم موجودة والسبب هو أنهم يحاولون ادعاء الثقافة والعمق الفكري،
وإلا فسوف يظهر للعيان أنهم قشور ثقافية فقط.
كيف لك أن تسلك طريقاً مختلفاً عنهم وأنت في مجتمع يحاول الجميع أن يكون نسخة طبق الأصل من
غيره فكرياً وثقافياً واجتماعياً.
في مجال الأدب بعض الكتاب أصبح يفصل كتاباته على الذوق الرائج والأفكار الرائجة، فيكرر
الأفكار التي أعجبتهم ويكتب بالطريقة التي يرغبونها،من الممكن أن يكتب باللغة العامية رغم أن الأدب
خلق فصيحاً، فكيف أحرفه فقط ليتناسب مع الذوق العام، وكيف يمكن للغة العربية التي تذخر بمفرادتها
أن تقف عاجزة أمام رغبة القراء.
وهكذا أصبحت الفئة المثقفة تفكر جميعها بالطريقة ذاتها، أو الفئة التي تدعي الثقافة! لأن الفئة المثقفة
فعلياً أصبحت منبوذة وفقا لآرائها التي لا تناسب محبي الأدب السطحي الذي لا يسمى أدباً، والمشكلة
هنا حين تكون تلك الأفكار لا تصلح لأي زمن كان ولا يوجد منفعة منها.
في العمل عليك أن تتبنى أفكار فريق العمل و يا حبذا لو تقمصت بعضاً من تصرفاتهم وعاداتهم، فحين
تكون لك شخصية مستقلة تفكر باتجاه قد يختلف عن غيرك من الموظفين فأنت عرضة للانتقاد والنبذ
لأن البشر لا يحبون المختلفين، واندماجك معهم في كل الأمور هو أمر لا بد منه وإلا فأنت تخالف
سياسة القطيع، أو عليك أن تستقيل من العمل إن لم تستطع الاندماج معهم.
وهكذا فأنت يوماً بعد يوم ستصبح نسخة من غيرك.
في المنزل أنت مضطر لأن تقتبس أراء وأفكار زوجتك أو زوجك وأن تبدي موافقتك عليها، وأي
اعتراض يعتبر نشوزاً وتمرداً وباباً من أبواب المشاجرات، وعليك أن تتصرف كغيرك من الأزواج
والأقارب حتى وإن كانت تصرفاتهم لا تناسبك وأن تعيش بالطريقة ذاتها، ولو حدث تغيير في حياة
أحدهم فعليك سلوك التغير ذاته.
مع أصدقائك أنت مضطر لأن يكون لديك الاهتمامات ذاتها ونوعية الأحاديث ذاتها أو المحيطين بك،
وإلا فسوف تواجه النبذ لأنك لن تصل إلى نقطة التقاء بينكم ،لا تناقش أفكارك الغريبة المختلفة عنهم
أبداً لأنهم سوف يرمقونك بنظرات غريبة وكأنك كائنٌ فضائي، وإن حاولت البحث عن من يشبهونك
وباءت محاولاتك بالفشل فسوف تجد نفسك منعزلاً في تفكيرك ووحيداً بلا أصدقاء.
ولا بد وأن يواجه أحد منا في عائلته حلماً كان لوالده أو والدته وعليه تحقيقه سواء كان يناسبه أم لا،
حتى الطموحات المستقبلية أصبحت تستنسخ أيضاً.
وعليك أن تفكر بذات الطريقة التي يفكر بها محيطك العائلي وإلا فأنت في نظرهم طفرة مختلفة وإن لم
يستطيعوا تغيير أفكارك ستجد نفسك منعزلاً عنهم.
ولو حاولت الهروب من كل ذلك والحصول على عزلة لنفسك وقمت بإخراج هاتفك المحمول أو جهاز
الكمبيوتر لتستمتع في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا يكثر الاستنساخ، المنشورات ذاتها في
كل مكان وقد تتكرر في الساعة الواحدة أكثر من مرة، الآراء ذاتها والمشاكل المطروحة ذاتها، ليس
لأن المشكلات في العالم قد انتهت، ولكن لأن جذور الاستنساخ قد تشبعت في عقولهم ولم يعد لديهم
الرغبة في الابتكار أو التفكير حتى، لماذا عليهم أن يبذلوا جهداً إن كانت تلك الأفكار والآراء جاهزة
وبدون عناء ويتبعها ويحبها الغالبية إذا فهي صحيحة لأنه من المحال أن يكونوا على خطأ!.
الصواب هو للأغلبية وليس لما هو صحيح.
ولو أنك خضت حواراً مع أحدهم وأبديت رأياً مغايراً لرأيه لانهمرت عليك الشتائم كالمطر، هذا إذا لم
يصفك أحد منهم بالتخلف والانحراف لأن عليك أن تكون مثلهم وتتبنى آراءهم ومواقفهم وتحليلاتهم
لوضع أو لمشكلة ما وكأنك تفكر بعقلهم لا بعقلك أنت.
فإن كانت أفكارك وآراؤك سوف تستنسخ في العمل والمنزل والجامعة وبين أصدقائك وفي قراءاتك
وربما في طريقة طعامك واختيار نوعية ملابسك لأنها كما يقولون الموضة وفي ملامحك أيضاً لأن
الفكرة العامة عن الجمال قد تغيرت وأصبح الجمال مرتبطاً بملامح شخص معين، حتى مقاييس الجمال
قد استنسخت.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا إن كان الله قد خلق لكل منا بصمة خاصة به لا تتكرر ولا تشبه بصمة
أحد فلماذا إذاً نسعى لأن نكون نسخة من غيرنا، هل أصبح التفرد في الشخصية والتفكير شذوذا؟
إن كان على الانسان أن يخفي أفكاره وطموحاته وأراءه وأن يغير من اهتماماته لتناسب الجميع، فمتى
يعيش ذاته كما هي؟ متى سيكون باستطاعته أن يقول ما يناسبه؟ ويتخذ الرأي الذي يناسبه ويعبر
بالطريقة التي يريدها؟
فقدنا تميزنا، فقدنا ملامحنا الخاصة وربما فقدنا أيضاً مشاعرنا التي كانت تختلف من شخص لآخر،
اليوم يكفيك أن تعرف عدداً محدوداً من البشر لتعرف تقريباً كل الأنواع والأصناف البشرية، لأننا
أصبحنا مستنسخين فكرياً.
لماذا لا يتم قبول اختلافنا في الفكر والثقافة ونوعية الموسيقى التي نحب سماعها وفي الرأي والحلم
والطموح وفي منطقنا وإدراكنا .
لسنا مجبرين أبداً أن نكون نسخة من غيرنا، علينا أن نتقبل بعضنا وأن نحترم تميزنا واختلافنا مهما
كان هذا الاختلاف، فالاستنساخ الذي وصل إليه العلم كان بهدف العلاج من الكثير من الأمراض ولكن
هذا الاستنساخ الذي نعيشه في أفكارنا ما الهدف منه؟ ما الهدف من الاستنساخ الفكري؟
لينا بغدادي