نصرٌ بزيِّ كفن
ملاذكرد

ذاع صيت القائد السلجوقي ألب أرسلان لقيادته الحذقة لمعركة ملاذ كرد وعلى الرغم من المعارك الكثيرة التي خاضها إلا أنها اعتبرت من أشهر معارك الدولة السلجوقية القصيرة العمر وحتى على مستوى التاريخ كنقطة فارقة أثرت في رسم الخارطة العالمية حتى يومنا هذا حيث وصفها بعض المؤرخين بالمفتاح الذي فتح باب الأناضول وبلاد الروم على مصراعيه أمام القبائل التركية والمد الإسلامي توسعاً واستيطاناً…
مع تسلم السلطان محمد بن السلطان جغري بك بن داوود المكنى بأبي شجاع زمام الحكم بعد وفاة عمه الذي لم يخلف وريثاً له، سعى إلى ترتيب الأوراق الداخلية ودعم استقرار البيت السلجوقي ليتفرغ تماماً في سبيل التوسع في بلاد الأناضول والروم التي كان الخليفة العباسي قد أقر عمه طغرل بك عليها، إذ أن طموحه كان يتجاوز أسوار الحصون التي ورثها من سابقيه، يتصف بشخصية فذة قوية ذكية، تمرس في أمور الإدارة والعسكرة، ما أضاف لشجاعته جرأة وثقة جعلت منه أيقونة التف حولها الشجعان من مقاتلي القبائل التركية التي جذبتها انتصاراته السريعة في مواجهة الفتن الداخلية والانقلابات المتعاقبة من بعض أفراد البيت السلجوقي في حكمه بداية ليفرض سيطرته على كامل إيران والعراق والأهم بلاد الشام وصولا حتى عسقلان، ليحد من سطوة الفاطميين تأميناً لظهر جيشه الذي يوسع مواجهاته العسكرية على أطراف الدولة البيزنطية في أرمينيا وأذربيجان والأناضول غرب منابع نهر الفرات وشمالي حلب ..
سبب حدوث معركة ملاذ كرد:
كان ألب أرسلان متوجها نحو مصر القابعة تحت حكم الفاطميين، ففتح في طريقه ديار بكر وحاصر الرها ولكنه لم يتمكن منها، فتوجه الى حلب محاصراً لها فخضعت دون قتال، ثم فتح المدن الساحلية حتى عسقلان، إلا أنه حاصر دمشق ولم يدخلها، الأمر الذي وصل إلى رامانوس الإمبراطور حديث العهد بالحكم… والذي رغب حقيقة بنصر يخرس به كل الأصوات المناوئة له داخل دوائر السلطة السياسية البيزنطية الحاكمة، إذ أن وصوله الحديث للعرش من خلال زواجه من أرملة الإمبراطور قسطنطين العاشر التي اشترت ولاء الجيش بواسطته “لكونه القائد العسكري الأول حفاظا على عرش طفلها” الأمر الذي خلق خلافا داخليا في أوساط البلاط البيزنطي.
إضافة لكون القوة السلجوقية الصاعدة لم تعد خطرا بعيدا في الشرق وإنما على الحدود المتاخمة للدولة البيزنطية فاستشعر رامانوس الأطماع التوسعية للقائد الشاب ولوزيره نظام الملك الذي ما فتئ يرمم الجبهة الداخلية ويحصنها في سبيل إنشاء كيان متماسك قوي إذ لم يعمد للصدام مع العباسيين، بل استمد شرعيته منهم ورفع راية الجهاد في البلاد، الخطاب الذي أظهره بمظهر القائد المسلم الذي يعمد لإعادة أمجاد الانتصارات على البيزنطيين والفتوحات الإسلامية …
المجريات:
وصل خبر جيش رامانوس البيزنطي للسلطان السلجوقي الشاب فتوجه سريعا نحو أرض ملاذ كرد لملاقاته على حدود سلطنته السلجوقية، وكان أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يحصل على الصلح والهدنة عن طريقه بشكل مباشر، أو عن طريق الخليفة العباسي والذي توسط فعليا ولكن بائت وساطته بالفشل. وقد كان هدفه من طلب المهادنة والصلح كسب الوقت ريثما تصله الإمدادات العسكرية والعدد الكافي من المقاتلين عندما رأى العدد الضخم لجيش العدو، غير أن الإمبراطور أراد تحقيق نصرٍ محقق بهذا العدد الهزيل لجيش خصمه لمواصلة زحفه حتى عاصمة السلاجقة “الري” قائلاً:
“إني قد أنفقت الأموال الكثيرة وجمعت العساكر الكثيرة للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها فكيف أتركها! هيهات لا هدنة إلا بالري ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فعل ببلاد الروم ..”
وأما الخيار الآخر فكان أن يخطف المبادرة من خصمه فلا يعطيه الفرصة ليريح جيشه الضخم الثقيل ليكسب من خلال عنصر المفاجئة بعض القوة.
بعد أن فقد الأمل بالخيار الأول توجه للثاني مهاجما خصمه بتكنيك عسكري لست بصدد الخوض فيه ” رغم أن الخطة العسكرية من أهم عوامل النصر والأخذ بالأسباب لتحقيق النصر”، كذلك مختارا موعد صلاة الجمعة بتاريخ 26 آب من عام 1071 لشن هجومه في معركة غير متكافئة من حيث العدد والعدة ولست بصدد التحدث عنه أيضاً علما أن التوقيت الذي يوافق رفع أيادي عموم المسلمين تضرعا ودعاء والتوكل على الله هو الوازع الديني الذي يعتبره المسلمون روح النصر ومفتاحه ”
وأما جيش السلطان السلجوقي فكان تعداده بين 15 إلى 20 ألف مقاتل بعتاد خفيف وبأحسن الأحوال، ذكرت المصادر أن تعداد الجيش لربما يصل إلى 50 ألفا بعد أن وصله الخبر وهو في مدينة خوى في أذربيجان عائدا من حلب، وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع فلم يتمكن من جمع العساكر لبعد القطع العسكرية المتمركزة في أنحاء الدولة السلجوقية وقرب العدو.. فأسرع لمواجهته في منطقة ملاذ كرد الواقعة في شمال بحيرة فان بالقرب من أرمينيا في محافظة موش التركية شرق الأناضول. فيما كان الإمبراطور البيزنطي رومانوس قد وفد بجيش جرار حرفيا قوامه 200 إلى 300 ألف مقاتل مجهز.
وكان هدف رومانوس من حشد هذا العدد الضخم وإعداده اختراق ثغور المسلمين من ناحية الجزيرة الفراتية شمالي العراق والتوغل في الأراضي الإيرانية لضرب السلاجقة في عمق دولتهم، بل واحتلالها وقد فطن ألب أرسلان لخطة العدو البيزنطي…
للوهلة الأولى عندما تقرأ عن تفاصيل المعركة تشعر وكأن ألب أرسلان ذاهب إلى انتحار عسكري لا محالة. تتساءل ألم تكن أمامه خيارات أم أنه غير مكترث بحياة جنوده… ألم يكن ينبغي عليه التوجه بكل ما أوتي به من قوة لطلب الصلح وقبول التسوية وتقديم تنازلات مغرية لرومانوس تجعله يرضي غروره ويحجم عن هذا الصدام المباشر على الأقل وإكتساب بعض من الوقت حتى وإن كان ذاهبا إلى المعركة عساه يعد شيئا يليق بمثل هكذا لقاء!!! … أكانت ثقة أم جنونا ليخوضَ مثلَ هذه المعركة …
ولعل أهم ما يميز العسكري قدرته على قراءة الواقع وإحداثياته واتخاذ القرارات وفق ما يملك من أدوات معرفية ومادية عن تموضعه و تموضع خصمه على الخارطة، ليست فقط الخارطة الجغرافية، وإنما خارطة القدرة المادية لكلا الطرفين ..
النتائج :
إنتصار كاسح للسلاجقة “هيبة فرضت نفسها في العالم الإسلامي و المسيحي” وهزيمة مدوية للإمبراطورية البيزنطية أمام العالم المسيحي بشقيه المشرقي والغربي، وتوقيع اتفاقية تم بموجبها إعادة الإمبراطور حيا وافتداؤه بمبلغ ليس بالبسيط، وتعهده عدم التعرض للأراضي الإسلامية ومواطنيها ..والأهم فتح الباب على مصراعيه أمام القبائل التركية للاستيطان في أراضي الأناضول والتوسع نحو أوروبا.
ما أنا بصدد الإضاءة عليه ليس السياقَ التاريخي لمعركة ملاذ كرد ولا حتى التعرض لشخصية ألب أرسلان، بل أن أقول أن تلك الفترة كان ضعفُ الخلافة العباسية و اضمحلالُها هو عنوانَ المرحلة، عصر الإمارات والدويلات الإسلامية المتآكلة والمتناحرة فيما بينها، ولكن ذلك لا ينفي بعث الأمة في عز ضعفها وهوانها…
واليوم معظم شبابنا متآكل هرم يدرك جيدا أن لا معركة في الأفق سيضيئ نتصارها الدرب المظلم الذي نغرق فيه كلنا، ولكن ذلك لا يعني أنك لست معنيا بأن تأخذ على عاتقك أن تكون جزءا من المعركة في شتى الميادين، لنصر قضية عادلة و حق تؤمن به حتى وإن كنت وحيدا ضعيفا ذليلا، لربما تراه “انتحارا عسكريا كما كان لألب أرسلان” ولكن إياك أن تلقي السلاح سواء أكان كلمة أم سيفا…
وأكرر: إن تناولي لقصة ألب أرسلان ليس بقصد الطرح التاريخي، وإنما في لحظة يجب علينا رؤية أن تلك المعركة التي رفض تأجيلها وخاضها رغم أن احتمالات الفشل والهزيمة أكبر بكثير من احتمال الانتصار والنجاة إلا أنه واجهها بجرأة وشجاعة وتصدى لها فغير خارطة التاريخ لأكثر من ألف عام لاحقة، و لربما اليوم ما نعانيه في خارطتنا الجغرافية كانت نتائج لمعارك مؤجلة. إذ أننا نفتقد اليوم للقادة الذين يمتلكون الشجاعة والجرأة لاتخاذ قرارات حاسمة في توقيت مناسب وفق حساباتهم التي تقتضيها المصلحة الوجودية لتحقيق نصر في سبيل النجاة من هزيمة محققة. نفتقد قادة يأخذون زمام المبادرة والمفاجأة يتعاملون مع الوضع الراهن والواقع بكل إحداثياته لا يخضعون للحدود التي يفرضها هذا الواقع بكل إيمان وعنفوان وجرأة… إنني هنا لا أدعو إلى البحث عن قادة في ميادين المعارك العسكرية فقط بل في كل الميادين الأخرى من حياتنا السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والفكرية وأهمها الاقتصادية، والتوقف عن تجاهل كل المعارك المؤجلة بحجة عدم الجاهزية. لنطرح سؤالا أمام ذواتنا متى نجهز إن لم نجهز الأن أم أنها محاولة أخرى للمماطلة ليكون ميراثنا الوحيد للأجيال القادمة جروحا متعفنة نتيجة المعارك المؤجلة… إن المعارك المؤجلة في لحظة ما ستتحول إلى حروب ساحقة على حد الطرفين، والأمر لا يتعلق بحقيقته بالخسائر البشرية على فداحتها وإنما بالهزيمة المعنوية التي قد يخلفها التلاعب بمصطلحات المعركة لتصبح ضرورة خوضها في وقتها ضرورة وجودية، فالهزائم الصغرى مقدمات للهزائم الكبرى تماما كما الانتصارات الصغرى مقدمات للانتصارات الكبرى…. يا شبابنا الذي أؤمن به توقفوا عن تأجيل المعارك فإن هناك ما يستحق القتال في سبيله حقاً…..
“وأن من يؤمن بالفكرة يقاتل في سبيلها، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره لا يتركه أبدا”

كتبه خولة طه

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *